حديث مجنون .. يوسف السباعى
مجنون هذه القصه .. مجنون فريد فى نوعه .. فلا هو بشاعر يهيم فى البيداء..
ولا فنان يعيش بجسد فى الارض زراس فى السماء
بل هو رجل لا يكاد يختلف كثيرا عن غيره من عقلاء الناس..
اذ ليس به من مظاهر الشذوذ شئ .. بل تراه على اتم ما يكون من الهدواء والسكون والحكمه والروية.
رايته اول مره .. وقد جلس على صخره من صخور الشاطئ قبيل الغروب
ونظرت اليه فرايته قد امسك بصندوق صغير. واخرج منه شيئا استطعت ان اميز فيه جدائل طويله من شعر
كانه خيوط الذهب .. ثم وضعها برفق على ركبتيه واخذ يمشطها بعناية بالغة
ثم رفعها بين يديه وضمها بشوق ودفن فيها وجهه.. وسادت فترة صمت عجيبة ..
وراح الرجل فى شبه غيبوبة .. فانتفضت واقفا .. واحس الرجل بحركتى
فاعاد الشعر ببطء الى الصندوق . ونهض من مكانه واختفى فى الظلمة
ورايت الرجل بعد ذالك مرات عديدة فى نفس المكان على نفس الصخرة
وتكرر منه كل مره ما رايته فى المره الاولى . حتى دفعنى حب الاستطلاع الى السؤال عنه ..
فقيل لى انه مجنون .
وفى ذات مرة غامرت بالجلوس اليه ومجاذبته اطراف الحديث. ودفعنى الى ذالك ما رايته من شدة هدوئه وسكينته
واعتقادى بان جنونه لا يمكن ان يكون من ذالك النوع الخطر الذى يخشى المرء شره ..
وكان حديثه الى حديث رجل عاقل .. فكدت انسى ما توهمته من جنون..
حتى وجدته يقف فجاة ثم تركنى الى صخره بعيدة . ويبدا فى اخراج الشعر وتمشيطه
ومرت الايام فبدا الرجل يانس الى حتى لم يعد لديه ما يمنع من ان يخرج الشعر امامى
ويحنو عليه كما يحنو على معشوقته
فحاولت عندئذ ان استدرجه ليقص على قصته ويفضى الى بما خفى من امره
ولكنه كان بلوذ بالصمت ويستغرق فى تفكير عميق .. وذات يوم اشتد ريحه . وعلت امواؤه ..
جلست مع الرجل اراقب زبد البحر يعلو الصخور فيصيبنا رذاذه بين حين واخر
وفجاة احسست بيد الرجل تقبض بعنف على كتفى . وسمعته يهتف بصوت اجش :
انظر ! انها هى .. الا ترى ذالك الشئ الذى يطفو على سطح الماء ؟ انه راسها ..
وذلك الشعر شعرها فانى لا اخطئه. ولو كانت بين الاف النساء
ونظرت الى حيث اشار . فاذا بشئ يطفو على سطح الماء. اغلب ظنى انه بعض عشب البحر
ولم ادر كيف اجيب الرجل. وخشيت ان اوقفه على وهمه .
فيلقى بنفسه فى اليم لانقاذ ذلك الشئ الذى ظنه راس امراة
ولكنه لم يترك لى فرصة الاجابة . فقد رايت ذراعه تسقط الى جانبه وسمعت منه أهة خيبة وخذلان
ثم قال فى انين موجع :
ياللحمق .. لقد نسيت انها قد اضحت بلا شعر .. ان شعرها هنا فى هذا الصندوق
وهو كل ما استطعت ان انقذه منها .. يا للذاكره الخائنه..
يخيل الى اننى قد اصبحت مجنونا حقا .. اذ كيف نسيت انها قد اصبحت الان رمة فى قاع البحر !
واحسست ان بالرجل رغبة فى ان يقذف ببعض تلك الجمرات التى تتاجج فى صدره..لقد كان به على غير عاده
حنين الى الحديث. ولهفة على ان ينبش حطام ذكريات راقدة فى احدائها .
ولم اجد خيرا من ان ادعه يسترسل فى حديثه . وقلت له استحثه :
خفف عن نفسك يا صحبى .. فكلنا مصيرنا الى رمة.. اما بقاع البحر او ببطن الارض
حدثنى عن صاحبتك .. كيف كانت ؟ وكيف صارت ؟
وصمت الرجل برهة. ثم قال كمن يحدث نفسه :
كيف كانت !! وكيف صارت !! لو بحثنا عنها هنا ( واشار الى صدره ) لوجدناها قد صارت الى خير مما كانت.
ففى كل يوم يخلع عليها القلب حلة فاتنه من حنينه واشواقه...
ولو بحثنا عنها هنا ( واشار الى جوف الماء ) لوجدنا قد صارت كانها ما كانت
وسادت فترة سكون اخرى ... ثم تمتم بصوت خافت :
دعنى اولا اوصفها لك . فمن العبث ان اروى لك قصتها دون ان يكون لها فى راسك صوره واضحه
والا اتهمتنى بالجنون كما فعل غيرك من العقلاء
رايتها اول مره صبية لوحتها الشمس . فتركت فى وجهها سمرة عجيبة فاتنه
زادتها فتنه عينان خضروان كانهما عينا هر. ولو لم ار سوى وجهها .3 لما تخيلت الا انها طفله لا تعدو العاشرة
ولكن جسدها كان يكذب وجهها .. فذلك الصدر الناهد . وتلك السيقان الملفوفة .
كانت تقسم ان صاحبتها امراة مكتملة الانوثة . اما الشئ الرائع حقا فكان شعرها .
ولست ادرى ما اذا كان بشعرها شئ عجيب حقا .. ام ان افتتانى به كان نوعا من شذوذ الهوى.. وجنون العشاق
ولكنى اؤكد لك انى ما رايته مرة الا ومددت يدى اعبث فيه وارفعه الى وجهى . واتحسسه بشفتى واشمه بانفى
كانت الصبية تطلقه على طبيعته ينساب على كتفها ويستقر على ظهرها فى تحرر وانطلاق
بلا جدائل ولا عقص ولا تمشيط زلا اى نوع من انواع العناية
ولكنه كان يتدفق من منابته كينبوع من الذهب دافئ حنون.
ولست اشك فى ان الصبية كانت مخلوقة عجيبة بين المخلوقات او اقل انها كانت بين البشر - تسبح وحدها
فى التفكير والشعور والتكوين .. لا فى الخلق ولا فى الخلق
كانت اشبه بالحيوان البرى المستوحش .. كثير الانطلاق فى الشاطئ والشرود فى البحر
وكانت دائمة التوهم انها تسمع اصواتا تستغيث بها من وراء الامواج
وكان المعروف بين قوم الفتاه ان بعقلها شذوذا يدفعها دائما الى البحر ويخيل لى انه لولا ذلك الشذوذ
ما قدر لى ان التقى بها فى هذه الحياه ولكنت انا الذى قد اصبح الان رمة فى قاع البحر.
وانى لارانى الان فى ذلك الكوخ المظلم على شاطئ البحر
وقد بدت الفتاة فى اقصاه على ضوء ذبالة خافتة . يحتضر فيها الضوء ..
واخذت احقق البصر فيما حولى .. اذ ادهشنى وجودى فى ذلك المكان
وخيل الى انى فقدت الذاكرة .. فقد كنت لا اعى شيئا مما حولى .
ولا اكاد اذكر اى ريح هوجاء قذفت بى الى هذا الكوخ المظلم المتداعى.
ولا من تكون الفتاة القابعة هناك بجوار الذبالة
على انى ما لبثت ان ذكرت كيف بدانا الرحيل وكيف تراكمت القوارب الصغيرة على الشاطئ
كى تنقلنا الى السفن الرابضة فى عرض البحر . كنت اعمل فى ذلك الوقت بحارا فى احدى السفن التجارية
وكنا على وشك القيام برحلة بعيدة تصحبنا بضع سفن ضخمة مليئة بالبضائع والاموال..
وكانت المرة الاولى التى نغامر فيها برحلة طويلة كتلك الرحلة. وانى لاذكر منظر الشاطئ
وقد ازدحم بالنسوة يودعننا باعين دامعة.. وقد احتضنت كل منهن زوجها او اخها او ابها
ووقفت انا ممسكا بزوجتى المحبوبة . وقد تعلقت بى فى شوق ولهفة
وتحركت السفن . واخذ الشاطئ يضمحل . حتى امحى من ابصارنا .
وسرنا فى عرض البحر تمخر بنا السفن عباب اليم ..حتى فوجئنا ذات يوم بزوبعة عاتية. فى غمضة عين
خيل الى ان البحر قد زلزل زلزاله . واخرج اثقاله . ورايت سفينتنا تتمايل .. وتتارجح ..
ثم تاخذ فى الهبوط شيئا فشيئا . ولمئ الجو بدخان اسود قاتم .. واخذت قوارب النجاة تحشد بالبحارة .
وبدت على سطح الماء الرؤوس الطافية . وبقع الدم الحمراء والذيت الاسود وتعلقت انا بلوح من الواح السفينة
التى ابتلعها اليم وبدات الامواج تدفعنى بعيدا ..
وقد تعلقت متشبثا بالةح كانه قد صار قطعة من جسدى وكان روحى قد انتقلت اليه
واخيرا . وهنت قواى . وهدنى التعب .
وكان الظلام قد حل فاستسلمت للياس واحسست باللوح يفلت من بين اصابعى المكدودة
ولكنى سمعت صوت جسم يتحرك فى الماء. وارهفت السمع فاذا بالصوت يقترب شيئا فشيئا
حتى تبينت فيه شبحا يقبل نحوى . ولم احس بعد ذلك الا وانا فى ذلك الكوخ المهدم البالى
تذكرت ذلك كله وانا راقد فى الظلمة .. وهممت بالقيام فاحسست الفتاة بحركتى . فاسرعت نحوى وامرتنى بالرقاد
وسالتنى عما اطلب . فسالتها بدورى عمن تكون ؟وعمن انقذنى من جوف البحر واحضرنى الى هذا المكان ؟
وعلمت منها انها تسكن الكوخ مع جدها العجوز . وانها سمعت صوت العاصفة واحست بدافع خفى
يدفعها الى الخروج الى الشاطئ فتسللت من الكوخ واخذت تتلمس طريقها وسط الريح العاصف
حتى بلغت صخور الشاطئ وابصرت الامواج تدفع امامها جسدا ..
قد تعلق باحد الالواح وانه يوشك ان يهوى فى قاع اليم .. فلم تتردد فى ان تقذف بنفسها بين الامواج
وظلت تجاهد حتى اخرجته وحملته الى الكوخ بمساعدة جدها
ورايت الفتاة تبتسم .. وامسكت يدى برقة واخبرتنى انها سعيدة بانقاذى
ومرت بضعت ايام وعدت فى خلالها الى كامل قواى .. وكانت الفتاة لا تفارقنى لحظو واحدة
وهنا احب ان اوضح لك امر لابد من ايضاحه.. لقد اخبرتك اننى متزوج .
واذيد على ذلك ان بينى وبين زوجتى حبا عميقا .
واننى كنت ارى دائما ان من الخير للمراء ان يكون فى هذه الحياة وفيا امينا
وعلى ذلك فلم يكن هناك ما يدفعنى قط لان احاول الزج بنفسى فى واقعة غرام بينى وبين الفتاة
وكنت احاول دائما ان ادخل فى روعها وروع نفسى ان الفارق بين عمرينا شاسع
وان مكاننا من بعض مكان الاب وابنته
ولكننى رغم كل ذالك وقعت فى حبها !! واصبت به تماما. كما يصاب المرء بمرض
ولو كان لنا ان نلوم المحموم لانه اصيب بحمى . فلك ان تلمونى لاننى اصبت بحب الفتاة وانا رجل متزوج
وجلست الفتاة ذات مرة تحدثنى عن امالها وامنيها.. وقد وضعت كفها الصغير بين كفى
وتهدل شعرها الذهبى على كتفيها وذراعيها .. واحسست بجسدها يقترب منى
ثم وضعت يديها على كتفى . ورايت عينيها الخضراوين تتطلعا الى بنظرات بعثت الدم حارا فى عروقى
وتمالكت نفسى فابعدتها عنى. ولكنها عادت تقترب حتى شعرت بحرارة انفاسها تلفح وجهى
فحاولت ان اكتفى بمس جبينها بفمى حتى تكون قبلتى قبلة اب لابنته ولكن الفتاة دفعت جبينها للخلف
وسرعان ما رفعت شفتيها فالصقتهما بشفتى واحسست بذراعيها الصغيرتين تحيطان بى
ولا حاجة بى الى ان اخبرك انى رجل مجرب لامور الحب..وان هذه القبلة لم تكن اول قبلة اذوقها من امراة
ولكنى اقول الحق انها كانت اعذب قبلة ذاقتهما شفتاى .. لقد ملاتنى نشوة.
فرايتنى انسى كل شئ . وامسك بالفتاة بين ذراعى لاغمر وجهها بالقبل
واخيرا افقنا لنفسينا . فرايت ذلك الحب الذى كنت اخشاه
ذلك الحب الذى لا طائل من ورائه قد وقع .. واخبرتها انه لا امل فى حبنا لاننا لابد سنفترق قريبا ...
فساعود فى اول سفينة الى زوجتى وخير لها ولى ان تكف عن حب رجل متزوج.
ورايت الفتاة تنظر الى وتضحك فى سخرية وتقول :
ماذا تعنى بمتزوج .. اتعنى هذه العقود التى يكتبها الانسان فيربط بها رجل بامرة مدى الحياة ؟
ياللسخف!! اتظن هذه العقود تمنعنى من ان احبك او تمنعك من ان تحبنى ؟ .. لا .. لا ...
ساحبك حتى افقدك .. ساحبك ولو ليوم . او لساعة .. فخير لى ان اعيش ساعة بحب
من ان اعيش دهرا بلا حب
ورايت الفتاة على حق .. وعجبت للناس لم لا يعجبون من ان يكره المرء مئات من الناس .
ويحتقر مئات منهم . ويحترم مئات .. ثم يدهشون ان يحب المرء اكثر من واحدة !!
انى احب زوجتى .. ولم يمنعنى هذا من ان احل الفتاة .. ولكن هل تقر اوضاع الحياة امرا كهذا ؟
هل تقبل احداهما مشاركة الاخرى لها فى حبها ؟..
لا اظن لقد كان على اختار واحدة .. اما الزوجة او الحبيبة .. وكان العقل فى جانب الاولى
وبعد بضعة ايام كنا فيها مثلا لعاشقين ..
اتت احدى السفن فانبات الفتاة انى راحل
وبدا عليها حزن عميق ومرارة اليمة . ورايتها تصمت لحظة ثم تنبئنى انها كانت تتوقع هذه الحظة
وانها لا تستطيع ان تسلبنى من زوجتى ولابد لها ان تتحمل مرارة الفرقة
ولكنها عادت ترجونى ان اخذها معى على السفينة حتى نتمتع بالهوى مدة اطول
وترددت برهة شعرت فى اثنائها بالحيرة . ولكن جنون الحب دفعنى لاجابة مطلبها
وعلى سطح السفينة اذاقتنى الفتاة اعذب كؤوس الهوى .. واخذنا فى الاقتراب من بلدتى
فعاد صوت العقل يلح ويعلو . وبدا على الوجوم . والضيق وحرت ماذا اصنع بالفتاة ؟؟
ولكنها اخبرتنى ضاحكة الا احمل لها هما فهى تعرف اين تذهب
فى ذات يوم وقبيل الفجر استيقظت قلقا . وبحثت عن الفتاة فلم اجدها ..
واخيرا عثرت عليها عند مقدمة السفينة وقد اوشكت ان تقذف بنفسها فى الماء
ولم استطع ان امنعها .. فقد وصلت متاخرا بعد ان سقطت فى الماء فاندفعت وراءها والقيت بنفسى فى اليم كلمجنون
واخذت اسبح خلفها .. ولكنها كانت تمعن فى الابتعاد الى ان اصابنا الكلل .
ورايتها على وشك ان تغرق . فجاهدت حتى استطعت اخيرا ان امسك بها وهى فاقدة الوعى
ودفعتها امامى حتى رايت احد قوارب النجاة . فتعلقت بها ثم رفعنها الى السفينة
وعلى ظهر السفينة .. التفت حولى البحارة ليقوموا باسعافها . ولكن لم يكن هناك فائدة
فقد كانت جثة هامدة .
وكان بى وقتئذ شبه ذهول .اذ كنت اعلم انهم سيعيدون الجثة كرة اخرى الى الماء
فلم اصدق ان الفتاة العزيزة ستذهب بلا رجعة .
وتغيب فى قاع اليم وتضيع بلا اثر .. ووجدتنى بلا تفكير ولا ارادة . اسرع الى الجثة فاقص شعرها
واعدو به الى حجرتى . لقد احسست منه بعض السلوى والعزاء .. زشئ خير من لاشئ
ونزلت الى الشاطئ .. وقد اخفيت الشعر فى الصندوق الخشبى خشية ان تراه زوجتى فتسالنى عن سره .
وقد تعصف بها الغيرة فتقذف به الى اليم . وتحرمنى منه.
سرت الى دارى شارد الذهن حزينا واجما . ولكنى دهشت .
اذ لم اجد زوجتى .. بل وجدت الدار خاوية مقفرة .. سالت عنها
واخبرونى انها عادرت البلدة مع رجل احبها واحبته بعد ان سمعت بغرق السفينة ويئست من عودتى
واقول لك الحق اننى لم احزن .. ولم اغضب .. بل شعرت بالكثير من الراحة
حين احسست انى استطيع ان اخلو الى الشعر واتمتع به دون ان يحاسبنى احد
او يضايقنى مخلوق .. لقد خيل الى ان الفتاة ستكون قريرة العين فى قاع البحر
لقد اصبحت لها وحدها .. ويمكننى ان اضم شعرها واقبله دون ان اخشى شيئا
وصمت الرجل برهة ثم رفع الى راسه متسائلا :
اترانى مجنونا كما يرانى الناس ؟
لو كنت مجنونا .. فاكثر منك جنونا .. ذلك القدر الذى يحركنا فى هذه الحياة