عندما يولد الحب
عندما ولد " عمرو " قالت والدته لأبيه : - عمرو هذا سيكون أخر العنقود ، لا أريد أن ننجب بعده حتى نربيه وإخوته تربية حسنة .
وافقها زوجها وهو يطبع أول قبلة على وجهه الصغير ذو العين المغمضة . منذ أن ولد " عمرو " والبيت كله يحيطه بالرعاية حتى أخته " نها " التي تكبره بثلاثة أعوام لم تكن لتصيبها الغيرة منه، فعندما ولد ألقت بعروستها الجميلة التي تغمض عينيها وتفتحها وقالت إنها ستلعب بعمرو ، وعندما كانت تحاول حمله وهو صغير لا يزيد عن حم عروستها لم تكن ولدتها تنهرها حتى لا تعيبها الغيرة منه ، بل كانت تقول لها :- أخوك ما زال صغيراً، دعيه حتى يكبر ، ولاعبيه وهو نائم ، فكانت تلاعبه، وعندما يضحك لها تجري إلى والدتها وتخبرها أن عمرو ضحك ، وكانت تحتجز من مصروفها الصغير لتشتري له البسكويت وتأكل ما يتبقى منه عندما يشبع، وفي إحدى المرات وهي تداعبه سقط وأخذ يصرخ، وجاءتها والدتها مسرعة، وحملته من على الأرض وهي تهدهده وتستحثه على السكوت، ونظرت إلى نها نظرة نارية التي كانت ترقب والدتها في رعب وانفجرت في البكاء ولسان حالها يقول : والله رغماً عني يا أمي .
وبعد أن توقف عن البكاء أعطته والدته صدرها يرشف منه حتى نام .
أما أخوه حسام فكان يحمله ويدور به في كل البيت فلما كبر وأصبح يخطو بخطى وئيدة ، وحسام ينتظر أمامه ويناديه في تشجيع :-
هيا يا عمرو ، هيا يا عمرو ، وعمرو يمد يده إلى الأمام وينظر في عيني حسام وقد فغر فاه وظهرت أسنانه الجميلة ، وما أن يقتر ب منه حتى يرتمي عليه، فيختطفه حسام قبل أن يقسط على الأرض.
كبر عمرو ودخل المدرسة وكان يتميز بالهدوء والجمال الزائد ونظافته الفائقة عن بقية زملائه، حتى أن مدرسته الحامل كانت تجلسه أمامها في وقت الفسحة وتداعبه وتنظر إليه حتى تنجب فتى أو فتاة مثله.
في إحدى المرات وهو عائد من المدرسة وجد بعض الأطفال يلعبون بجرو صغير ويربطونه بحبل رفيع من رقبته وهو يصرخ بين أيديهم عندما يجرونه يميناً أو يساراً، أو وقف يشاهدهم وهم يفعلون في هذا الجرو هذه الأفاعيل وهم يضحون .
نظر إلى الجرو ثم استدار ليذهب، سمعه يصرخ بشدة كأنه يستنجد به أن ينقذه، فعاد إلى الأولاد ليفكوه.
أخذ الأولاد يسخرون منه واستمروا في جذب الجرو ، نظر إلى الجرو مرة ثانية فوجده ينظر إليه وهو يصرخ في رعب صراخاً ضعيفاً ،ويلوي رقبته كأنه يحاول أن يتملص منهم لكنه لا يقدر.
طلب منهم أن يعطوه إياه ويأخذون ثمنه، نظر الأطفال إلى بعضهم وقال أحدهم : تدفع كم ؟
أخرج خمسة وعشرون قرشا هي كل ما معي، اختطفها الأطفال وقالوا وهم يجرون : - أحسن من الكلب .
جلس عمرو على الأرض ليفك الحبل من عنق الجرو وقد وجد أثاراً للحبل في رقبته، أخرج قطعة شيكولاتة صغيرة من حقيبته ووضعها في راحته وقربها من فم الجرو الذي أخذ يتشممها وأخرج لسانه الوردي الجميل ليلعقها عدة لعقات ثم يجذبها بفمه ويلوكها بين فكيه ثم يبتلعها .
دق عمرو جرس بيته وفتحت له والدته ورأته وهو يحمل الجرو على صدره وقد اتسخت ملابسه، فحملقت فيه بشدة وصاحت: ما هذا الذي تحمله؟ عد وألقيه من حيث أتيت به.
وقف متسمراً في مكانه، ثم انهمر في البكاء، وهو يرجوها أن تبقيه ، وهي تصيح فيه وتصرخ.
خرج زوجها على صراخها وطلب منها أن تهدأ وهو يمسح على شعر عمرو ، تركته زوجته وانطلقت ناحية الداخل وهي تتكلم بكلمات غير مفهومة تدل على ضيقها، وزوجها يتابعها بعينيه .
دخل عمرو ومعه الجرو وهو يقول لوالده وهو يبكي :
سأغسله وأجعله نظيفاً ولا تجعل أمي تلقيه حتى لا يموت.
مع توسلات عمرو كل من في البيت وافقت والدة عمرو على بقائه ، وبقى الجرو في البيت لكن على السطوح فقد رفضت والدته أن يعيش معها تحت سقف واحد.
انتقل الكلب إلى السطوح ، وقد أحضر عمرو إناء به ماء وبعضا من مسحوق الغسيل وأخذ يعمل على تنظيفه حتى انتهى ، فوقف الجرو يهز جسده كأنه يرتعد ونثر الماء عن جسده ولأول مرة - بعد أن أذيل لونه الترابي الرث - يظهر لونه الأبيض الناصع وقد وقف مزهواً به .
أصبح عمرو يقضي أكثر وقته على السطوح يلعب مع صديقه الجديد وقد خصصت والدته للجرو إناء قديماً يحيطه الدخان من الخارج وبقايا طعام محترق من الداخل، وقد أمسك عمرو بالإناء وظل ينظفه حتى عاد إلى بعض سابق أيام عهده.
أخذ عمرو يشارك والدته في تنظيف المائدة ليعد للجرو طعامه الذي يحبه ، من عظام أو أرز أو فتات خبز باللبن، وقد حرمت والدته الجرو أن يهبط إلى أسفل ، وكان إذا نزل تهرول خلفه وتقذفه بأي شيء في يدها فإن لم تجد فبفردة من حذائها.
كان الجرو وقد أصبح اسمه بلبل ينمو كأنه ينتفخ حتى صار كلباً جميلاً ، وأصبح كل من في البيت يصعد إلى السطح كي يلعب معه إلا والدة عمرو، وعندما يهبطون للطعام، تقسم أن الجميع لن يأكل حتى يغسل يده ثلاث مرات بالماء والصابون، فيقسم زوجها أنه لم يلمس بلبل فتقسم أنه لابد أن يغسل يديه فيغسلها على مضض وهي بجوارهم ترقبهم .
عاد عمرو من المدرسة لا تقوي قدماه على حمله ووجهه شديد الحمرة وملمس جلده كأنه قد مسته نار، وما أن رأته والدته حتى صاحت في وجهه في فزع : ما بك يا عمرو ؟
لم يرد ونظر إليها بعينين بالكاد يفتحهما، وكاد يسقط لولا أن تلقفته يدا والدته وحملته إلى الفراش وما هي إلا دقائق حتى عاد والده بالطبيب الذي أجرى عليه الكشف وترك لهم روشتة الدواء.
لم يعتد بلبل أن يتأخر عنه صاحبه كل هذا الوقت، فقد أسدل الليل ستائره ولم يأت إليه بغدائه أو حتى عشائه.
هبط من السطوح في حذر وأخذ يخمش الباب بأظافره ، ففتح حسام الباب ووجده يمد رأسه داخل البيت وهو يزوم زوماً متقطعاً وما أن رأى والدة عمرو تتحرك أمامه حتى لوى عنقه وعاد أدراجه مسرعاً وهو يتلفت خلفه، وما زال صراخه المتقطع ينبعث منه.
جمعت والدة عمرو بعض الطعام وأعطته لحسام كي يطعم الكلب وما أن وصل إليه حتى وجده وافقاً في ترقب ويهز رأسه وعيناه زائغة ، وهو يحاول النظر خلف حسام كأنه يبحث عن شيء ما.
اخذ بلبل يشم الطعام ، ثم جري ناحية السلم ينظر على درجه ثم لا يلبث أن يعود وينظر في عيني حسام هذه نظرات ، ورفض أن يقرب الطعام.
عاود خمش الباب مرة ثانية وفي هذه المرة فتحت له والدة عمرو وما أن رآها حتى عاد مسرعاً إلى السطح فاراً منها وهي تتابعه.
كان عمرو ينام وقد أصابته الحمى ولازم الفراش، ولم يعد يستطيع أن يتكلم إلا همساُ ضعيفاً يقول لوالدته " جسمي يؤلمني .
هبط بلبل أثناء الليل وظل ممداً أمام البيت واضعاً رأسه بين أماميتيه حتى الصباح ، وعندما فتحت أم عمرو الباب كي تقضي شياً من الخارج، وما أن رآها حتى انتفض وقفز عدة درجات من السلم ووقف في منتصفه وهو ينظر إلى هذه السيدة كأنه يستعطفها .
فكرت السيدة أن تحاول إعادته إلى السطوح لكنها تراجعت وخرجت لتعود بسرعة وقد وجدت الكلب لا يزال غاضباً في منتصف السلم وأصبحت نظرة الاستعطاف ممتزجة بالإصرار.
فتحت الباب وما أن دخلت بنصف جسدها حتى قفز بلبل السلم ووقف أمام الباب وهي تحاول أن تخيفه بيديها، فلم يتحرك محاولا النظر داخل البيت، لكنها دخلت ودفعته بالباب وهي تغلقه.
أخبرت والدة عمرو زوجها بأن الكلب نائماً أمام الباب، وطلبت منه وهي تصيح، وتطلب إبعاده حتى لا تقتله فخرج ليعيده إلى مكانه، لكنه وجد إصراراً من الكلب على الدخول وقد وضع رأسه بين الباب وبين عارضته ونام، فظل والد عمرو يحاول دفعه كأنه يتوسل إليه، حتى أعاد رأسه خارج الباب وأغلقه ثم جلس على كرسي.
قام إلى زوجته يرجوها تدخل الكلب عند عمرو، فأرادت زوجته أن تصرخ لكنه هدأها وطلب منها أن تتركه لدقائق ثم سيخرجه إلى السطح ، ويخبرها أيضاً أن بلبل نظيف ويحب عمرو ، وعمرو يحبه ، وأن الكلب سيظل واقفاً أمام الباب ولن يبرح مكانه حتى يرى عمرو ، لكنها صاحت ثانية ولم يستطع أن يسكتها هذه المرة وهي تسخر من كلماته ، فكيف لهذا الحيوان أن يحب عمرو هكذا وأخذ تتهمه بالخيال والفلسفة الكاذبة ، لكن مع إصراره وهدوئه أقنعها أن تجعله يدخل ليرى عمرو ويخرج بعدها .
وافقت وهي تقول في عصبية : افعل ما تريد ، أنا أعرف أن نهاية هذا الكلب ستكون على يدي.
قام والد عمرو مسرعا ليفتح الباب وكان بلبل ما زال ممدداً في مكانه ، وما أن رآه حتى أنتفض وافقاً وقد مد رأسه يتلصص ، ثم مش داخل البيت وهو ينادي للكلب الذي مشى في إثره وهو يتلفت حوله ، وما أن فتح باب الحجرة التي يرقد فيها عمرو انطلق الكلب مسرعا متجها ناحية السرير، حتى كاد أن يقفز على عمرو وهو نائم ، لكن والد عمرو منعه ، وأخذ يطلب من الكلب أن يبقى على الأرض حتى لا يجلب عليه المتاعب ، فأخذ بلبل ينظر إلى عمرو وهو نائم ، ثم يزوم في صوت البكاء .
جاءت والدة عمرو على هذا الصوت معتقدة أن عمرو يبكي ، وما أن رأت الكلب على هذه الحالة حتى وقفت واجمة ، تنظر إلى الكلب مرة وإلى ابنها المريض مرة وإلى زوجها مرة أخرى ثم انسحبت في هدوء دون أن تنطق بكلمة واحدة .
تمدد بلبل بجوار السرير وظل يرقب عمروا، بل ويرفض الطعام الذي يوضع أمامه كأنه لا يراه، ثم ينظر إلى عمرو وهو يزوم كالبكاء .
بعد ثلاثة أيام بدأ عمرو يتماثل للشفاء وبدأ يداعب بلبل ويلعب بيده الضعيفة في فرائه وهو في الفراش وقد بدأت عليه علامات السعادة وعلى بلبل علامات الرضا .
والدة عمرو تتعجب منه وهو يهز زيله فرحاً وهو يرى عمرو يمشي وقد اخذ يتمسح في قدميه.
عاد الفرح إلى البيت مرة أخرى، وصعد بلبل إلى السطح لينتظر صديقه وهو عائد من المدرسة .
أخذت والدة عمرو الطعام للكلب ، اقترب بلبل وهو يهز زيله فرحاً .
بقلم محمد عاشور